مجلة الوعي العدد 215
في خضم الواقع الأليم المبعثر الذي يعيشه المسلمون، يُطرح موضوع «الاجتهاد الجماعي» بحجة إخراج المسلمين من حال الفوضى الفكرية التي تشهدها ساحتهم، ولضبط الآراء والأفكار والأحكام الشرعية، وجعلها لا تخرج عن إرادة الحكام غير الشرعيين المفروضين على الأمة، وبالتالي لا تخرج عن إرادة أسيادهم من حكام الغرب، وعلى رأسهم أميركا.
وهذا الطرح يتناول الاجتهاد في المسائل التي تهم عامة المسلمين. فبدلاً من أن يبادر القائمون على هذا الطرح إلى طرح وجوب إيجاد الخليفة المسلم الذي يرفع، بتبنيه للأحكام الشرعية التي تهم عامة المسلمين، الخلاف، نراهم يأخذون من الحاكم مهمته. بل أكثر من ذلك سكت هؤلاء عن وجود الحكام غير الشرعيين، بل أكثر من ذلك سمحوا لهؤلاء الحكام أن يفرضوا عليهم ما يرونه هم لا ما يراه الشرع، بل أكثر من ذلك، ما يراه أسيادهم، ولتصبح فتاوى واجتهادات أميركية أو غربية بامتياز.
وهناك بعض الملاحظات لا بد من الإشارة إليها:
الأولى: الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء] على الاجتهاد الجماعي استدلال في غير محله. فالآية لا علاقة لها بموضوع استنباط الأحكام، وإنما موضوعها التثبت من الأخبار قبل إذاعتها، ووجوب ترك بثها أو كتمانها إلى الرسول عليه الصلاة و السلام وإلى أمرائهم. ففي الحديث المتفق عليه عن عمر رضي الله عنه حين بلغه أن رسول الله عليه الصلاة و السلام طلق نساءه، فجاء من منـزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي فاستفهمه: أطلقت نساءك؟ فقال: لا، فقلت: الله أكبر وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم فقلت: أطلقتهن؟ فقال: لا، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله عليه الصلاة و السلام نساءه، ونـزلت هذه الآية، وذكر الآية، ثم قال: فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وفي تفسير يستنبطونه قال الزجاج: هذا الاستنباط الأكثر يعرفه لأنه استعلام خبر. وقال ابن جريج: هذا في الأخبار. وقال القرطبي: لعلم حقيقة ذلك الخبر. وقال السدي: يعني عن الأخبار وهم الذين ينقرون عن الأخبار. وقال القرطبي: أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه، وما ينبغي أن يكتم. وقال مجاهد: يسألون عنه ويتحسسونه. وقال الضحاك: يتتبعونه. وقال أبو العالية: يتتبعونه ويتحسسونه. قال ابن عباس رضي الله عنه: يتحسسونه.
ولو كان موضوع الآية هو استنباط الأحكام الشرعية لوجب الرد إلى الله والرسول، وبما أنها خلت من الرد إلى الله ثبت أن موضوعها الأخبار لا الأحكام.
وأيضاً فإن الاجتهاد ليس فيه اتباع للشيطان، حتى ولو أخطأ المجتهد بل هو مأجور على خطئه. واتباع الشيطان إنما يكون في إذاعة الأخبار دون ردها إلى الرسول وإلى الأمراء.
الثانية: إن رسول الله عليه الصلاة و السلام لم يكن يستشير في الأحكام الشرعية مطلقاً، رغم أنه كان كثير الاستشارة لأصحابه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله عليه الصلاة و السلام ». وعلى كثرة استشارته فإنه لم يستشر في حكم شرعي قط. والاجتهاد استنباط للأحكام الشرعية، فكيف تكون استشارته في غير الأحكام دليلاً على استشارته في الأحكام؟! هذا إنزال للحكم على غير واقعه. وكل الأدلة التي أوردوها هي استشارة في غير الأحكام:
ففي بدر بعد أن فاتتهم العير، استشارهم في ملاقاة النفير، وكان يقصد الأنصار لأنهم أكثر الجيش. روى البخاري عن البراء قال: "وكان المهاجرون يوم بدر نيفاً على ستين، والأنصار نيفاً وأربعين ومئتين"، هذا من جهة ومن جهة أخرى أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى نصرته خارج المدينة، روى ابن اسحق قال: "ثم قال رسول الله عليه الصلاة و السلام أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: «يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا»، فكان رسول الله عليه الصلاة و السلام يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله عليه الصلاة و السلام قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل ...". وروى أحمد عن أنس بإسناد صححه ابن كثير قال: "استشار النبي عليه الصلاة و السلام مخرجه إلى بدر فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقال بعض الأنصار: إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار..."، وذكر ابن حزم في جوامع السيرة قال: "وأتاه الخبر بخروج نفير قريش لنصر العير فأخبر أصحابه، رضوان الله عليهم، واستشارهم فيما يعملون، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، فتمادى في الاستشارة وهو يريد ما يقول الأنصار، فبادر سعد ...". هذه الروايات تدل على أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يريد معرفة رأي الناس، وعلى وجه الخصوص رأي الأنصار في قتال قريش، ولم يكن يستشير في حكم شرعي. فلا حجة في هذه الاستشارة على الاجتهاد الجماعي.
وأما مشورة الحباب في بدر فهي متعلقة برأي فني يوضح خطة للقتال، أي يرسم خطة عسكرية للمعركة، وهذا ليس اجتهاداً ولا استنباطاً لحكم شرعي. على أن في كلام الحباب ما يشير إلى أنها ليست أمراً من الله، ولو كانت كذلك لما أشار بما أشار به. روى ابن اسحق قال: "فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنـزل، أمنـزلاً أنـزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة ...". هذه الرواية في إسنادها مقال، ومع ذلك فلا حجة فيها على الاجتهاد الجماعي.
ولا حجة لهم أيضاً في استشارته في أسارى بدر، إذ لم تكن استشارة في حكم شرعي فلا دلالة فيها على الاجتهاد الجماعي، لأنها كانت استشارة في خيارات الحكم الذي كان نازلاً قبل ذلك في سورة محمد بقوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد 4] فالحكم العام في الأسرى كان نازلاً قبل بدر (المن أو الفداء) كذلك جواز قتل أسرى مخصوصين بسبب خاص، كقتل الرسول عليه الصلاة و السلام لعقبة بن معيط والنضر بن الحارث. والخلاصة أن حكم الأسرى كان نازلاً قبل بدر وكان معروفاً للرسول عليه الصلاة و السلام فكيف يستشير رسول الله عليه الصلاة و السلام في حكم أنـزله الله سبحانه؟ إن الذي حدث هو استشارة في أي خيار من خيارات حكم الأسرى يأخذ؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة و السلام معصوم، ينذر بالوحي وينطق عن الوحي: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء 45]، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم] والوقائع كانت تثبت ذلك، إذ كانت تأتيه المسألة أو تحدث الحادثة فيتريث صلوات الله وسلامه عليه فلا يجيب عن السؤال إلا بعد أن ينـزل الوحي. وعليه لا يصح القول إن الرسول عليه الصلاة و السلام استشار في حكم الأسرى قبل أن ينـزل. وأما قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال 68] والذي قد يظن منها بعضهم أن الحكم لَم يكن نازلاً، فإن للعلماء أجوبة مختلفة، ومما يثلج الصدر ويطمئن إليه القلب هو جواب الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتابه الشخصية حيث يقول: "وأما قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال 68]، فإنه ليس وعيداً من الله بالعذاب على أخذ الفداء كما يتوهم البعض، بل هو بيان للنتائج التي كان يمكن أن تترتب على أخذ الأسرى قبل المبالغة بالإثخان، وهي خسران المعركة، وإصابة المسلمين بالقتل من الكفار، وهذا هو العذاب العظيم وليس عذاب الله. أي لولا علم الله بأنكم ستنتصرون لأصابكم في أخذكم الأسرى قبل المبالغة بإثخان الكفار قتل وانكسار من أعدائكم. وقد أطلق القرآن كلمة عذاب على القتل في الحرب قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة 14] ولا يتأتى أن يكون معناها عذاب الله؛ لأن الخطاب عام للرسول والمؤمنين، ولأنه إن اعتبرت الآية تصحيح اجتهاد على حد تعبيرهم فهو خطأ معفو عنه لا يستحقون عليه عذاباً من الله، وإن اعتبرت عتاباً على خلاف الأولى كما هو الواقع، فلا يستحق عليها عذاباً من الله. فلا يتأتى مطلقاً أن يكون مسُّ العذاب من الله، بل المعنى لأصابكم قتل وإذلال من أعدائكم". فليس في هذه المسالة اجتهاد لا منه ولا من الصحابة الذين استشارهم، فالحكم كان معروفاً فاختاروا خلاف الأولى، واختيار خلاف الأولى جائز عليه ، ولا ينافي العصمة. وخلاف الأولى هو أخذ الأسرى قبل الإثخان. وقد ورد طلب الإثخان في سورة محمد (القتال) التي نـزلت قبل بدر وقبل الأنفال؛ لأنها السورة الوحيدة التي فيها حكم الأسرى، وهي نـزلت قبل حصول معركة بين جيش المسلمين وجيش الكفار؛ لأن الله سبحانه قد بدأ آية حكم الأسرى بكلمة (إذا) فقال سبحانه: ﴿فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد 4] أي أن حكم الأسرى كان نازلاً قبل لقاء الجيشين، ولقاء جيش المسلمين والكفار كان في بدر.
وأما تشاوره مع أصحابه في الخروج لملاقاة قريش في غزوة أحد بدلاً من البقاء في المدينة فلا علاقة له باجتهاد فردي ولا جماعي، بل هو مباح لهم أن يقاتلوا داخل المدينة أو خارجها، فاختار أغلبهم، وبخاصة من لَم يشهد بدراً، أحد المباحين وهو الخروج، فخرج الرسول عليه الصلاة و السلام ، واختيار أحد المباحات ليس اجتهاداً، أي ليس استنباط حكم شرعي. فلا حجة في هذه الحادثة على الاجتهاد الجماعي.
ومشورة سلمان في حفر الخندق ليست حكماً شرعياً، بل هي خبرة فنية نقلها عن الفرس، وأين هذه المشورة من الاجتهاد؟! فهي تماماً كمشورة الحباب في بدر.
وأما مشروع صلحه مع غطفان والذي لم يتم، ففيه أحكام شرعية كلها مأخوذة من سنته . وفيه تحقيق لمناط أي شرح لواقع معين بينه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وتحقيق المناط ليس استنباطاً لحكم شرعي. والحديث رواه ابن إسحق عن الزهري والبزار والطبراني عن أبي هريرة، قال الهيثمي: ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات، وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله استأمر السعود أي شاورهم، وفي حديث الزهري "واستشارهما"، فالمشاورة حصلت لكنها لم تكن في حكم شرعي، ففي إحدى روايات الطبراني "وقالا: يا رسول الله، إن كان هذا عن وحي فامض لما أمرت به، وإن كان رأياً رأيت ..." وفي رواية ثانية: "يا رسول الله عليه الصلاة و السلام ، أوَحيٌ من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك فرأينا تبع هواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا ..." وفي رواية الزهري: "فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم ...". ثم إن رسول الله عليه الصلاة و السلام علل صنيعه هذا في رواية أبي هريرة بقوله: "إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة" وفي إحدى روايات الزهري: "والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ..." وفي رواية أخرى عنه "فأحببت أن أصرفهم عنكم". ومن المعلوم أن قوله وفعله وتقريره سنة تستنبط منها الأحكام، وبالتدقيق في هذه الحادثة نجد أن الأمر في المعاهدات الاضطرارية متروك لأمر الإمام، يتصرف فيه حسبما يراه مصلحة للإسلام والمسلمين، وذلك أخذاً من شروعه في الصلح عندما قدَّر المصلحة في ذلك. فالعرب قد رمت المسلمين عن قوس واحدة، وكالبوهم من كل جانب فأراد أن يصرفهم ذلك العام، أو يكسر شوكتهم إلى أمر ما، وبناءً على هذا الواقع شرع في الصلح. ولما آنس من المسلمين القوة والاستعداد للقتال قائلين "ليس لهم إلا السيف" أي أن الواقع الذي قدَّره قد اختلف، اختار السيف. فالمشورة التي أشاروا بها لا علاقة لها بتخيير الإمام أو صاحب الصلاحية بين القتال أو الصلح، وإنما أظهروا للرسول عليه الصلاة و السلام واقعاً لم يكن ظاهراً له، فلما ظهر له اختار السيف. وفعله تشريع وليس اجتهاداً، منه استنبط حكم هذا النوع من المعاهدة أو الموادعة أو الصلح، وهو أن أمرها موكول إلى الإمام يفعل ما يراه مصلحة. فههنا مسألتان يمكن أن يقع الخلط بينهما: الأولى أن الحكم لله ورسوله في إبرام الصلح وعدمه، وهذا حكم شرعي، وقد ترك الشارع ذلك لصاحب الصلاحية يفعل ما يراه مصلحة بناء على فهمه للواقع. والثانية تقدير واقع المسلمين هل هم أقوياء يستطيعون مواجهة العدو، أم فيهم ضعف عنه؟ وهو ما يسمى بتحقيق المناط، أي الواقع الذي يتعلق به الحكم، ومشورة السعود لم تخرج عن تحقيق المناط بإظهار قوتهم على قتال عدوهم، وبناء على هذا الواقع الذي ظهر منهم، اختار السيف على الصلح، وهذا تشريع منه يعمل به الأئمة من بعده. فالسعود لم يجتهدوا في حكم شرعي، وإنما بينوا واقعاً كان خافياً، فلا حجة في هذه الحادثة على الاجتهاد الجماعي. على أن الصحابة قد ميزوا بين التشريع والحكم الشرعي الذي لا دخل لهم فيه، وبين ما يصنعه للإبقاء عليهم، وقد أقرهم على هذا التفريق، ففي رواية الطبراني قالوا: "يا رسول الله، أوَحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو رأيك وهواك فرأينا تبع هواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا ..." وفي رواية الزهري "فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال بل شيء أصنعه لكم..." ففي الرواية الأولى فرقوا بين أمر الله ورأي رسوله وهواه وبين الإبقاء عليهم. وفي الثانية فرقوا بين الأمر الذي يحبه ، والشيء الذي أمر الله به، وهذا لا بد من العمل به، وبين ما يصنعه لهم وهو الإبقاء عليهم الوارد في الرواية الأولى، وقد أقرهم على هذا التفريق.
فالقول بأن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يستشير أصحابه في الأحكام الشرعية، ويعمل باجتهاد أكثرهم أو بعضهم، هذا القول معناه أنه ينذرنا باجتهاد الصحابة، ويبلغ عن غير وحي والله سبحانه يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء 45]، ويقول: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم] ويقول: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام 50] ويقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ [الأعراف 203]؛ وعليه فإنه مما ينبغي الجزم به أنه لم يكن يستشير في الأحكام الشرعية مطلقاً.
أما الاحتجاج على الاجتهاد الجماعي بما رواه الطبراني عن علي عنه وما رواه الدارمي عن المسيب بن رافع، وما رواه أبو عبيد عن ميمون ابن مهران، وما روي عن عثمان وما رواه أبو الزناد عن عمر بن عبد العزيز، وما قاله الجويني في الغياثي من تشاور الصحابة واجتهادهم، فلا خلاف في أصله، وإنما الخلاف في بعض الفروع كما سيأتي في الملاحظات اللاحقة.
الثالثة: هناك فارق كبير بين قاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف، وقاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف. فحكم الحاكم يرفع الخلاف في القضية المعينة فقط، ولا يرفعه فيما شابهها من القضايا، بينما أمر الإمام يرفع الخلاف في كل القضايا المتشابهة، مهما اختلف الزمان والمكان في دار الإسلام. فمثلاً إذا قتل مسلم ذمياً في دار الإسلام، وقضى قاض بالدية لا بالقود؛ لأنه يرى أن المسلم لا يقتل بالكافر، فإن حكمه هذا يرفع الخلاف في هذه القضية بالذات، وليس لأي قاض آخر، بعد النطق بالحكم، أن يقول هذا حكم باطل، بخلاف ما لو تكررت نفس الحادثة في زمان أو مكان مختلف، فله أن يحكم بالقود إذا كان يرى قتل المسلم بالكافر. فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله. هذا معنى حكم الحاكم يرفع الخلاف. أما قاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف ففي مسألتنا إذا أمر الإمام أن يقتل المسلم بالكافر فليس لحاكم أن يخالف هذا الأمر، وعليه أن ينفذه ولو خالف رأيه، ومهما تعددت الحوادث المتشابهة فإن ما تبناه، أي أمر به الإمام، واجب التنفيذ على الموافق والمخالف. والذين حاولوا وضع أسلوب للإلزام بالاجتهاد الجماعي، كان الأصوب، بل الذي لا صواب غيره، أن يحتجوا بقاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف، لا بقاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف، لأن أمر الإمام يرفع الخلاف مطلقاً أما حكم الحاكم أي قضاء القاضي فيرفع الخلاف في القضية المعينة.
الرابعة: إن إنشاء المجامع، والمجالس، ودور التقريب، والجمعيات، والاتحادات، ليست هي الأساليب التي ترفع الخلاف، والذي يرفع الخلاف كما مر هو أمر الإمام. وقد وقع هؤلاء القوم فيما هربوا منه، وأبعدوا عما أعلنوه غرضاً لهم، فكثرت مؤسسات الاجتهاد الجماعي، وربما تزيد في يوم من الأيام عن عدد المجتهدين الأفراد، إن بقي المسلمون بلا جماعة ولا إمام.
الخامسة: إن المنادين بالاجتهاد الجماعي يحتجون بفعله في الشورى بصفته رئيس دولة، ويحتجون بفعل أبي بكر وعمر وعثمان وبفعل عمر بن عبد العزيز، أي أنهم يعرفون أن الذي كان يستشير أو يشار عليه هو الإمام بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام ، ومع هذا فإنه لا يرد ذكر للإمام ولا لرفع الخلاف بأمره.
السادسة: إن جميع مؤسسات الاجتهاد الجماعي تخدم مصلحة الدولة التي تقوم المؤسسة على أرضها، ولا تخرج عن هذا الإطار مطلقاً وقد اعترف بعضهم بذلك كما مر. بل إن هذه المؤسسات صار بعضها تحت النفوذ الأميركي، والآخر تحت النفوذ الإنجليزي، تبعاً لعمالة الدول التي تستضيفها وتدعمها، فهي مظهر من مظاهر الفرقة، وأدوات بأيدي أمراء الفرقة أو أيدي أسيادهم.
السابعة: إن جمع الأمة على رأي واحد غير مطلوب وغير ممكن، والمطلوب شرعاً والممكن هو جمعها على إمام واحد. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران 103] وجميعاً حال من المعتصمين، وقوله: ﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ قرينة على الجزم، ولا تكون الأمة جميعاً أو جماعة إلا على رجل واحد منها كما ورد في حديث عرفجة عند مسلم أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه».
الثامنة: إن دعوة أصحاب القرار للاستفادة من الاجتهادات الجماعية دعوة لا تدل على الجدية في العمل على إيجاد الإسلام في حياة المسلمين، فأصحاب القرار هم أمراء الفرقة، وهم من قد علمتم وعلمنا، ووصفهم بأنهم أصحاب قرار غير مطابق للواقع، فأمرهم بيد الكافر وعداؤهم للإسلام سافر، ومن المؤلم أن تجد في الأمة من يكتفي بعرض الإسلام عليهم إن شاءوا عملوا به، وإلا وضعوه على الرف وأهملوه، وهل هذا يبرئ ذممنا أمام الله؟!! أنظر إلى قول أحدهم: نحن ندعو إلى وحدة في الموقف العملي الذي يجب أن يكون واحداً مهما اختلفت الأفكار، وهذا الموقف تارة في قبالة العدو، وأخرى تجاه القضايا الأساسية المشتركة في هذه الأمة. وقبل أيام يقف رئيس هذه الدولة يعلن على إحدى القنوات الفضائية موقفهم الإيجابي من أميركا في كل من الأفغان والعراق، وقبل ذلك كانت تعلن الحياد، وهي تصنع الصواريخ والطائرات والغواصات وغيرها فلمن تعدّها إن لم تستعملها في الأفغان والعراق. وإنما ذكرت هذه الدولة لأنها تدعي أنها إسلامية، أما غيرها فعداء أولي الأمر فيها للإسلام لا يحتاج إلى لفت النظر إليه.
وأخيراً فإنني أنصح هؤلاء القوم ومقلديهم أن يكونوا جادّين في إيجاد الجماعة على إمام، أي على خليفة بالطريق الذي أقام به رسول الله عليه الصلاة و السلام دولته، فقد طمى سيل الكفر والنفاق حتى غاصت الأعناق، فالبدار البدار إلى إقامة الفرض الذي تقام به الفروض. وهو كائن بإذن الله، بذا أخبرنا الله ورسوله، فهنيئاً لمن أحسن العمل وانتظر الفرج .
في خضم الواقع الأليم المبعثر الذي يعيشه المسلمون، يُطرح موضوع «الاجتهاد الجماعي» بحجة إخراج المسلمين من حال الفوضى الفكرية التي تشهدها ساحتهم، ولضبط الآراء والأفكار والأحكام الشرعية، وجعلها لا تخرج عن إرادة الحكام غير الشرعيين المفروضين على الأمة، وبالتالي لا تخرج عن إرادة أسيادهم من حكام الغرب، وعلى رأسهم أميركا.
وهذا الطرح يتناول الاجتهاد في المسائل التي تهم عامة المسلمين. فبدلاً من أن يبادر القائمون على هذا الطرح إلى طرح وجوب إيجاد الخليفة المسلم الذي يرفع، بتبنيه للأحكام الشرعية التي تهم عامة المسلمين، الخلاف، نراهم يأخذون من الحاكم مهمته. بل أكثر من ذلك سكت هؤلاء عن وجود الحكام غير الشرعيين، بل أكثر من ذلك سمحوا لهؤلاء الحكام أن يفرضوا عليهم ما يرونه هم لا ما يراه الشرع، بل أكثر من ذلك، ما يراه أسيادهم، ولتصبح فتاوى واجتهادات أميركية أو غربية بامتياز.
وهناك بعض الملاحظات لا بد من الإشارة إليها:
الأولى: الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء] على الاجتهاد الجماعي استدلال في غير محله. فالآية لا علاقة لها بموضوع استنباط الأحكام، وإنما موضوعها التثبت من الأخبار قبل إذاعتها، ووجوب ترك بثها أو كتمانها إلى الرسول عليه الصلاة و السلام وإلى أمرائهم. ففي الحديث المتفق عليه عن عمر رضي الله عنه حين بلغه أن رسول الله عليه الصلاة و السلام طلق نساءه، فجاء من منـزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي فاستفهمه: أطلقت نساءك؟ فقال: لا، فقلت: الله أكبر وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم فقلت: أطلقتهن؟ فقال: لا، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله عليه الصلاة و السلام نساءه، ونـزلت هذه الآية، وذكر الآية، ثم قال: فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وفي تفسير يستنبطونه قال الزجاج: هذا الاستنباط الأكثر يعرفه لأنه استعلام خبر. وقال ابن جريج: هذا في الأخبار. وقال القرطبي: لعلم حقيقة ذلك الخبر. وقال السدي: يعني عن الأخبار وهم الذين ينقرون عن الأخبار. وقال القرطبي: أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه، وما ينبغي أن يكتم. وقال مجاهد: يسألون عنه ويتحسسونه. وقال الضحاك: يتتبعونه. وقال أبو العالية: يتتبعونه ويتحسسونه. قال ابن عباس رضي الله عنه: يتحسسونه.
ولو كان موضوع الآية هو استنباط الأحكام الشرعية لوجب الرد إلى الله والرسول، وبما أنها خلت من الرد إلى الله ثبت أن موضوعها الأخبار لا الأحكام.
وأيضاً فإن الاجتهاد ليس فيه اتباع للشيطان، حتى ولو أخطأ المجتهد بل هو مأجور على خطئه. واتباع الشيطان إنما يكون في إذاعة الأخبار دون ردها إلى الرسول وإلى الأمراء.
الثانية: إن رسول الله عليه الصلاة و السلام لم يكن يستشير في الأحكام الشرعية مطلقاً، رغم أنه كان كثير الاستشارة لأصحابه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله عليه الصلاة و السلام ». وعلى كثرة استشارته فإنه لم يستشر في حكم شرعي قط. والاجتهاد استنباط للأحكام الشرعية، فكيف تكون استشارته في غير الأحكام دليلاً على استشارته في الأحكام؟! هذا إنزال للحكم على غير واقعه. وكل الأدلة التي أوردوها هي استشارة في غير الأحكام:
ففي بدر بعد أن فاتتهم العير، استشارهم في ملاقاة النفير، وكان يقصد الأنصار لأنهم أكثر الجيش. روى البخاري عن البراء قال: "وكان المهاجرون يوم بدر نيفاً على ستين، والأنصار نيفاً وأربعين ومئتين"، هذا من جهة ومن جهة أخرى أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى نصرته خارج المدينة، روى ابن اسحق قال: "ثم قال رسول الله عليه الصلاة و السلام أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: «يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا»، فكان رسول الله عليه الصلاة و السلام يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله عليه الصلاة و السلام قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل ...". وروى أحمد عن أنس بإسناد صححه ابن كثير قال: "استشار النبي عليه الصلاة و السلام مخرجه إلى بدر فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقال بعض الأنصار: إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار..."، وذكر ابن حزم في جوامع السيرة قال: "وأتاه الخبر بخروج نفير قريش لنصر العير فأخبر أصحابه، رضوان الله عليهم، واستشارهم فيما يعملون، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، فتمادى في الاستشارة وهو يريد ما يقول الأنصار، فبادر سعد ...". هذه الروايات تدل على أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يريد معرفة رأي الناس، وعلى وجه الخصوص رأي الأنصار في قتال قريش، ولم يكن يستشير في حكم شرعي. فلا حجة في هذه الاستشارة على الاجتهاد الجماعي.
وأما مشورة الحباب في بدر فهي متعلقة برأي فني يوضح خطة للقتال، أي يرسم خطة عسكرية للمعركة، وهذا ليس اجتهاداً ولا استنباطاً لحكم شرعي. على أن في كلام الحباب ما يشير إلى أنها ليست أمراً من الله، ولو كانت كذلك لما أشار بما أشار به. روى ابن اسحق قال: "فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنـزل، أمنـزلاً أنـزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة ...". هذه الرواية في إسنادها مقال، ومع ذلك فلا حجة فيها على الاجتهاد الجماعي.
ولا حجة لهم أيضاً في استشارته في أسارى بدر، إذ لم تكن استشارة في حكم شرعي فلا دلالة فيها على الاجتهاد الجماعي، لأنها كانت استشارة في خيارات الحكم الذي كان نازلاً قبل ذلك في سورة محمد بقوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد 4] فالحكم العام في الأسرى كان نازلاً قبل بدر (المن أو الفداء) كذلك جواز قتل أسرى مخصوصين بسبب خاص، كقتل الرسول عليه الصلاة و السلام لعقبة بن معيط والنضر بن الحارث. والخلاصة أن حكم الأسرى كان نازلاً قبل بدر وكان معروفاً للرسول عليه الصلاة و السلام فكيف يستشير رسول الله عليه الصلاة و السلام في حكم أنـزله الله سبحانه؟ إن الذي حدث هو استشارة في أي خيار من خيارات حكم الأسرى يأخذ؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة و السلام معصوم، ينذر بالوحي وينطق عن الوحي: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء 45]، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم] والوقائع كانت تثبت ذلك، إذ كانت تأتيه المسألة أو تحدث الحادثة فيتريث صلوات الله وسلامه عليه فلا يجيب عن السؤال إلا بعد أن ينـزل الوحي. وعليه لا يصح القول إن الرسول عليه الصلاة و السلام استشار في حكم الأسرى قبل أن ينـزل. وأما قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال 68] والذي قد يظن منها بعضهم أن الحكم لَم يكن نازلاً، فإن للعلماء أجوبة مختلفة، ومما يثلج الصدر ويطمئن إليه القلب هو جواب الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتابه الشخصية حيث يقول: "وأما قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال 68]، فإنه ليس وعيداً من الله بالعذاب على أخذ الفداء كما يتوهم البعض، بل هو بيان للنتائج التي كان يمكن أن تترتب على أخذ الأسرى قبل المبالغة بالإثخان، وهي خسران المعركة، وإصابة المسلمين بالقتل من الكفار، وهذا هو العذاب العظيم وليس عذاب الله. أي لولا علم الله بأنكم ستنتصرون لأصابكم في أخذكم الأسرى قبل المبالغة بإثخان الكفار قتل وانكسار من أعدائكم. وقد أطلق القرآن كلمة عذاب على القتل في الحرب قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة 14] ولا يتأتى أن يكون معناها عذاب الله؛ لأن الخطاب عام للرسول والمؤمنين، ولأنه إن اعتبرت الآية تصحيح اجتهاد على حد تعبيرهم فهو خطأ معفو عنه لا يستحقون عليه عذاباً من الله، وإن اعتبرت عتاباً على خلاف الأولى كما هو الواقع، فلا يستحق عليها عذاباً من الله. فلا يتأتى مطلقاً أن يكون مسُّ العذاب من الله، بل المعنى لأصابكم قتل وإذلال من أعدائكم". فليس في هذه المسالة اجتهاد لا منه ولا من الصحابة الذين استشارهم، فالحكم كان معروفاً فاختاروا خلاف الأولى، واختيار خلاف الأولى جائز عليه ، ولا ينافي العصمة. وخلاف الأولى هو أخذ الأسرى قبل الإثخان. وقد ورد طلب الإثخان في سورة محمد (القتال) التي نـزلت قبل بدر وقبل الأنفال؛ لأنها السورة الوحيدة التي فيها حكم الأسرى، وهي نـزلت قبل حصول معركة بين جيش المسلمين وجيش الكفار؛ لأن الله سبحانه قد بدأ آية حكم الأسرى بكلمة (إذا) فقال سبحانه: ﴿فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد 4] أي أن حكم الأسرى كان نازلاً قبل لقاء الجيشين، ولقاء جيش المسلمين والكفار كان في بدر.
وأما تشاوره مع أصحابه في الخروج لملاقاة قريش في غزوة أحد بدلاً من البقاء في المدينة فلا علاقة له باجتهاد فردي ولا جماعي، بل هو مباح لهم أن يقاتلوا داخل المدينة أو خارجها، فاختار أغلبهم، وبخاصة من لَم يشهد بدراً، أحد المباحين وهو الخروج، فخرج الرسول عليه الصلاة و السلام ، واختيار أحد المباحات ليس اجتهاداً، أي ليس استنباط حكم شرعي. فلا حجة في هذه الحادثة على الاجتهاد الجماعي.
ومشورة سلمان في حفر الخندق ليست حكماً شرعياً، بل هي خبرة فنية نقلها عن الفرس، وأين هذه المشورة من الاجتهاد؟! فهي تماماً كمشورة الحباب في بدر.
وأما مشروع صلحه مع غطفان والذي لم يتم، ففيه أحكام شرعية كلها مأخوذة من سنته . وفيه تحقيق لمناط أي شرح لواقع معين بينه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وتحقيق المناط ليس استنباطاً لحكم شرعي. والحديث رواه ابن إسحق عن الزهري والبزار والطبراني عن أبي هريرة، قال الهيثمي: ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات، وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله استأمر السعود أي شاورهم، وفي حديث الزهري "واستشارهما"، فالمشاورة حصلت لكنها لم تكن في حكم شرعي، ففي إحدى روايات الطبراني "وقالا: يا رسول الله، إن كان هذا عن وحي فامض لما أمرت به، وإن كان رأياً رأيت ..." وفي رواية ثانية: "يا رسول الله عليه الصلاة و السلام ، أوَحيٌ من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك فرأينا تبع هواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا ..." وفي رواية الزهري: "فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم ...". ثم إن رسول الله عليه الصلاة و السلام علل صنيعه هذا في رواية أبي هريرة بقوله: "إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة" وفي إحدى روايات الزهري: "والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ..." وفي رواية أخرى عنه "فأحببت أن أصرفهم عنكم". ومن المعلوم أن قوله وفعله وتقريره سنة تستنبط منها الأحكام، وبالتدقيق في هذه الحادثة نجد أن الأمر في المعاهدات الاضطرارية متروك لأمر الإمام، يتصرف فيه حسبما يراه مصلحة للإسلام والمسلمين، وذلك أخذاً من شروعه في الصلح عندما قدَّر المصلحة في ذلك. فالعرب قد رمت المسلمين عن قوس واحدة، وكالبوهم من كل جانب فأراد أن يصرفهم ذلك العام، أو يكسر شوكتهم إلى أمر ما، وبناءً على هذا الواقع شرع في الصلح. ولما آنس من المسلمين القوة والاستعداد للقتال قائلين "ليس لهم إلا السيف" أي أن الواقع الذي قدَّره قد اختلف، اختار السيف. فالمشورة التي أشاروا بها لا علاقة لها بتخيير الإمام أو صاحب الصلاحية بين القتال أو الصلح، وإنما أظهروا للرسول عليه الصلاة و السلام واقعاً لم يكن ظاهراً له، فلما ظهر له اختار السيف. وفعله تشريع وليس اجتهاداً، منه استنبط حكم هذا النوع من المعاهدة أو الموادعة أو الصلح، وهو أن أمرها موكول إلى الإمام يفعل ما يراه مصلحة. فههنا مسألتان يمكن أن يقع الخلط بينهما: الأولى أن الحكم لله ورسوله في إبرام الصلح وعدمه، وهذا حكم شرعي، وقد ترك الشارع ذلك لصاحب الصلاحية يفعل ما يراه مصلحة بناء على فهمه للواقع. والثانية تقدير واقع المسلمين هل هم أقوياء يستطيعون مواجهة العدو، أم فيهم ضعف عنه؟ وهو ما يسمى بتحقيق المناط، أي الواقع الذي يتعلق به الحكم، ومشورة السعود لم تخرج عن تحقيق المناط بإظهار قوتهم على قتال عدوهم، وبناء على هذا الواقع الذي ظهر منهم، اختار السيف على الصلح، وهذا تشريع منه يعمل به الأئمة من بعده. فالسعود لم يجتهدوا في حكم شرعي، وإنما بينوا واقعاً كان خافياً، فلا حجة في هذه الحادثة على الاجتهاد الجماعي. على أن الصحابة قد ميزوا بين التشريع والحكم الشرعي الذي لا دخل لهم فيه، وبين ما يصنعه للإبقاء عليهم، وقد أقرهم على هذا التفريق، ففي رواية الطبراني قالوا: "يا رسول الله، أوَحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو رأيك وهواك فرأينا تبع هواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا ..." وفي رواية الزهري "فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال بل شيء أصنعه لكم..." ففي الرواية الأولى فرقوا بين أمر الله ورأي رسوله وهواه وبين الإبقاء عليهم. وفي الثانية فرقوا بين الأمر الذي يحبه ، والشيء الذي أمر الله به، وهذا لا بد من العمل به، وبين ما يصنعه لهم وهو الإبقاء عليهم الوارد في الرواية الأولى، وقد أقرهم على هذا التفريق.
فالقول بأن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يستشير أصحابه في الأحكام الشرعية، ويعمل باجتهاد أكثرهم أو بعضهم، هذا القول معناه أنه ينذرنا باجتهاد الصحابة، ويبلغ عن غير وحي والله سبحانه يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء 45]، ويقول: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم] ويقول: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام 50] ويقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ [الأعراف 203]؛ وعليه فإنه مما ينبغي الجزم به أنه لم يكن يستشير في الأحكام الشرعية مطلقاً.
أما الاحتجاج على الاجتهاد الجماعي بما رواه الطبراني عن علي عنه وما رواه الدارمي عن المسيب بن رافع، وما رواه أبو عبيد عن ميمون ابن مهران، وما روي عن عثمان وما رواه أبو الزناد عن عمر بن عبد العزيز، وما قاله الجويني في الغياثي من تشاور الصحابة واجتهادهم، فلا خلاف في أصله، وإنما الخلاف في بعض الفروع كما سيأتي في الملاحظات اللاحقة.
الثالثة: هناك فارق كبير بين قاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف، وقاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف. فحكم الحاكم يرفع الخلاف في القضية المعينة فقط، ولا يرفعه فيما شابهها من القضايا، بينما أمر الإمام يرفع الخلاف في كل القضايا المتشابهة، مهما اختلف الزمان والمكان في دار الإسلام. فمثلاً إذا قتل مسلم ذمياً في دار الإسلام، وقضى قاض بالدية لا بالقود؛ لأنه يرى أن المسلم لا يقتل بالكافر، فإن حكمه هذا يرفع الخلاف في هذه القضية بالذات، وليس لأي قاض آخر، بعد النطق بالحكم، أن يقول هذا حكم باطل، بخلاف ما لو تكررت نفس الحادثة في زمان أو مكان مختلف، فله أن يحكم بالقود إذا كان يرى قتل المسلم بالكافر. فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله. هذا معنى حكم الحاكم يرفع الخلاف. أما قاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف ففي مسألتنا إذا أمر الإمام أن يقتل المسلم بالكافر فليس لحاكم أن يخالف هذا الأمر، وعليه أن ينفذه ولو خالف رأيه، ومهما تعددت الحوادث المتشابهة فإن ما تبناه، أي أمر به الإمام، واجب التنفيذ على الموافق والمخالف. والذين حاولوا وضع أسلوب للإلزام بالاجتهاد الجماعي، كان الأصوب، بل الذي لا صواب غيره، أن يحتجوا بقاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف، لا بقاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف، لأن أمر الإمام يرفع الخلاف مطلقاً أما حكم الحاكم أي قضاء القاضي فيرفع الخلاف في القضية المعينة.
الرابعة: إن إنشاء المجامع، والمجالس، ودور التقريب، والجمعيات، والاتحادات، ليست هي الأساليب التي ترفع الخلاف، والذي يرفع الخلاف كما مر هو أمر الإمام. وقد وقع هؤلاء القوم فيما هربوا منه، وأبعدوا عما أعلنوه غرضاً لهم، فكثرت مؤسسات الاجتهاد الجماعي، وربما تزيد في يوم من الأيام عن عدد المجتهدين الأفراد، إن بقي المسلمون بلا جماعة ولا إمام.
الخامسة: إن المنادين بالاجتهاد الجماعي يحتجون بفعله في الشورى بصفته رئيس دولة، ويحتجون بفعل أبي بكر وعمر وعثمان وبفعل عمر بن عبد العزيز، أي أنهم يعرفون أن الذي كان يستشير أو يشار عليه هو الإمام بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام ، ومع هذا فإنه لا يرد ذكر للإمام ولا لرفع الخلاف بأمره.
السادسة: إن جميع مؤسسات الاجتهاد الجماعي تخدم مصلحة الدولة التي تقوم المؤسسة على أرضها، ولا تخرج عن هذا الإطار مطلقاً وقد اعترف بعضهم بذلك كما مر. بل إن هذه المؤسسات صار بعضها تحت النفوذ الأميركي، والآخر تحت النفوذ الإنجليزي، تبعاً لعمالة الدول التي تستضيفها وتدعمها، فهي مظهر من مظاهر الفرقة، وأدوات بأيدي أمراء الفرقة أو أيدي أسيادهم.
السابعة: إن جمع الأمة على رأي واحد غير مطلوب وغير ممكن، والمطلوب شرعاً والممكن هو جمعها على إمام واحد. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران 103] وجميعاً حال من المعتصمين، وقوله: ﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ قرينة على الجزم، ولا تكون الأمة جميعاً أو جماعة إلا على رجل واحد منها كما ورد في حديث عرفجة عند مسلم أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه».
الثامنة: إن دعوة أصحاب القرار للاستفادة من الاجتهادات الجماعية دعوة لا تدل على الجدية في العمل على إيجاد الإسلام في حياة المسلمين، فأصحاب القرار هم أمراء الفرقة، وهم من قد علمتم وعلمنا، ووصفهم بأنهم أصحاب قرار غير مطابق للواقع، فأمرهم بيد الكافر وعداؤهم للإسلام سافر، ومن المؤلم أن تجد في الأمة من يكتفي بعرض الإسلام عليهم إن شاءوا عملوا به، وإلا وضعوه على الرف وأهملوه، وهل هذا يبرئ ذممنا أمام الله؟!! أنظر إلى قول أحدهم: نحن ندعو إلى وحدة في الموقف العملي الذي يجب أن يكون واحداً مهما اختلفت الأفكار، وهذا الموقف تارة في قبالة العدو، وأخرى تجاه القضايا الأساسية المشتركة في هذه الأمة. وقبل أيام يقف رئيس هذه الدولة يعلن على إحدى القنوات الفضائية موقفهم الإيجابي من أميركا في كل من الأفغان والعراق، وقبل ذلك كانت تعلن الحياد، وهي تصنع الصواريخ والطائرات والغواصات وغيرها فلمن تعدّها إن لم تستعملها في الأفغان والعراق. وإنما ذكرت هذه الدولة لأنها تدعي أنها إسلامية، أما غيرها فعداء أولي الأمر فيها للإسلام لا يحتاج إلى لفت النظر إليه.
وأخيراً فإنني أنصح هؤلاء القوم ومقلديهم أن يكونوا جادّين في إيجاد الجماعة على إمام، أي على خليفة بالطريق الذي أقام به رسول الله عليه الصلاة و السلام دولته، فقد طمى سيل الكفر والنفاق حتى غاصت الأعناق، فالبدار البدار إلى إقامة الفرض الذي تقام به الفروض. وهو كائن بإذن الله، بذا أخبرنا الله ورسوله، فهنيئاً لمن أحسن العمل وانتظر الفرج .
0 commentaires:
إرسال تعليق