مجلة الوعي العدد 213

يضيف سيد قطب في ظلال القرآن لفتة أخرى إلى ما ذكرناه في العدد السابق فيقول: «ونقف من هذه اللفتة: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ وقفة أخرى: نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات الله عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم، تجاه البشرية كلها... وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة..
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم. فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم... في الدنيا والآخرة.
إنه أمر هائل عظيم... كان الرسل -صلوات الله عليهم- يحسون بجسامة ما يكلفون. وكان الله سبحانه يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم... وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه... ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾[المزمل: 1 - 5]... ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ، وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾[الإنسان: 23 - 26]... وهذا هو الذي يشعر به نبيه عليه الصلاة و السلام  وهو يأمره أن يقول، وأن يستشعر حقيقة ما يقول: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ، إِلاَّ بَلاَغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ﴾ [الجن 22-23]... ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ، إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 26 -28]..
إنه الأمر الهائل العظيم.. أمر هذه البشرية التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن لا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ!
فأما رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل.. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان، ولكن بلغوها -مع هذا- قدوة ممثلة في العمل، وجهاداً مضنياً بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق.. كما صنع رسول الله خاتم النبيين عليه الصلاة و السلام  ، فلم يكتفِ بإزالة العوائق باللسان، إنما أزالها كذلك بالسنان ﴿ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة 193]...
وبقي الواجب الثقيل على من بعده... على المؤمنين برسالته... فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده عليه الصلاة و السلام  وتبليغ هذه الأجيال منوط بعده بأتباعه... على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله عليه الصلاة و السلام  وأدى...
ولا بد من بلاغ، لا بد من أداء. بلاغ بالبيان وبلاغ بالعمل، حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون، وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة، وتفتن الناس بالباطل وبالقوة... وإلا فلا بلاغ، ولا أداء...
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله... وإلا فهي التبعة الثقيلة، تبعة ضلال البشرية كلها، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟
إن الذي يقول: إنه «مسلم» إما أن يبلغ ويؤدي هكذا. وإلا فلا نجاة له في دنيا، ولا في آخرته... إنه حين يقول: إنه «مسلم» ثم لا يبلغ ولا يؤدي... كل ألوان البلاغ والأداء هذه، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلاً من أداء شهادة له، تحقق فيه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة 143].
وتبدأ شهادته للإسلام... بقيامه بدعوة الأمة.. إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها.. الشخصية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.. وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم عن أي لون كانت هذه العوائق

0 commentaires:

إرسال تعليق

 
Top